لقد آمنت دائما بأن المثقف موقف، موقف هو أو لا يمكن أن يكون، واقتنعت أن الضحك الساخر موقف أيضا، وبأنه جزء أساسي وحيوي من ديوان المواقف المبدئية الحية، المواقف الفكرية والجمالية والسياسية والأخلاقية الثابتة بكل تأكيد، ولقد حرصت في كل كتاباتي، الإبداعية والفكرية والنقدية، على أن أتجاوز (الضحك الأخلاقي، لأنه ضحك يقوم على العرف، والعرف نسبي) وقلت في البيان الثالث لجماعة المسرح الاحتفالي ( إنه لا يهمنا أن نضحك على ما ليس خيرا، ذلك لأن الأساس هو أن نضحك على ما ليس معقولا ) وكان هذا اقتناعا منا بالفكرة التالية، وهي أن ما هو خير عند بعض الناس، أو عند بعض الجهات، قد لا يكون كذلك عند بعضها الآخر، وبهذا جاء تركيزنا على المفارقات العقلية والمنطقية قبل غيرها، وذلك لأنها عامة وشاملة .
وفي هذا الزمن الجديد، والذي هو زمن المفارقات الغريبة والعجيبة، يمكن أن نتوقع اليوم أي شيء. وأن نقبل أن يحدث الشيء ونقيضه في نفس الآن، وأن يكون ذلك عاديا ومنطقيا، وأن يتعايش التقدم مع التخلف، والعلم مع الجهل، وأن يحدث ذلك في نفس الجسد وفي نفس الروح في نفس اللحظة، ويمكن أن يتقاطع الغنى الفاحش مع الفقر المدقع، وأن يختلط الجمال والقبح، والفن بالعفن، وأن يتحاور البكم والصم، وأن (يقول) كل واحد منهما ما يريد، وأن يفهم الآخر ما يشاء، وأن يكتب الكاتبون عنهما شيئا آخر، ويمكن أن تكثر المعلومات أيضا، وهي فعلا كثيرة جدا، وأن تتعدد مصادرها، وأن يتعدد رواتها، وأن يكون سهلا الوصول إليها، ومع ذلك، يقل الصادقون في المتكلمين والكاتبين، ويقل العلم والعلماء ويختفي العارفون، ولا يبقى إلا السادة المتعالمون، ويمكن أن تتناسل الجرائد والمجلات أيضا، وأن تضيق الرفوف بالكتب وبالمطبوعات، ومع ذلك، تجد أن إخواننا القراء يتناقصون يوما بعد يوم، أو ربما، ساعة بعد أخرى، وأعتقد أن في الأمر سوء فهم، أو سوء تفاهم، بين من يكتب، وبين من يقرأ، وبين من ( يقول) وبين من يسمع، وقد يكون العطب أكبر من الكاتب، ويكون أخطر من القارئ، ويكون أكثر مكرا من حسابات الناشر، وبهذا يمكن أن نستخلص النتيجة التالية، وهي أن هذا المناخ اليوم ـ أو هذا الزمن الأمي ـ لا يمكن أن يساعد على القراءة الفاهمة والعالمة، وأنه لا يمكن أن يسمح إلا بالتفرج على حوادث الطريق، وعلى الفضائح، وعلى كل ما لا يمكن أن يتعب النفس والروح والعقل.
ولأننا لا نريد أن ( نتوب) عن ( اقتراف) فعل الكتابة، ولأننا لا نريد أن نتخلى عن عادة القراءة، ولأننا لا نريد أن يضيع أخونا القارئ في متاهات الكتابة التي لا يفهمها ولا تفهمه، فإننا ندعو إلى كتابة أخرى جديدة ومتجددة، ونفترض بأن هذا القارئ مازال يردد المثل الشعبي الذي يقول ( الله يجيب اللي يفهمنا ) ونفترض أيضا، أن هذا القارئ ـ ولحد الآن ـ مازال لم يجد كتابته التي يبحث عنها بعد، وبأنه قد أضاف لهذا المثل الشعبي ما يكمله، وأنه قد أصبح في هذا اليوم الغامض والملتبس يقول ما يلي ( الله يجيب من يفهمنا ما لا نفهمه) وبحثا عن الكاتب الآخر، وعن تلك الكتابة الأخرى، وعن ذلك القارئ، ينبغي أن نبحث اليوم وغدا، وفي كل يوم من الأيام الآتية.
في القاهرة، صدرت منذ سنوات مجلة ثقافية جادة وجديدة.. مجلة تحمل اسم ( الكتابة الأخرى) وهي مجلة تريد أن تكتب بشكل آخر، وأن تقرأ بشكل آخر، وذلك انسجاما مع معطياات هذا الواقع الآخر، والتي هي معطيات جديدة بالضرورة، وفي العدد التاسع من هذه المجلة، يمكن أن نقرأ في إشارة الافتتاح الكلمة التالية :
( منذ أن أصدرنا الكتابة الأخرى، ونحن نتبنى ثقافة جديدة ورؤى جديدة وعالما جديدا، و نرى أنه قد آن الأوان أن يكون هذا النهج هو نهجنا جميعا لأننا نؤمن ببديهية أن العالم القديم بممارساته وقناعاته قد مات )
وأخوف ما نخافه اليوم، أن يكون ذلك العالم القديم قد مات فعلا، من غير أن يكون العالم الجديد قد ولد فعلا. إن الطبيعة لا تحب الفراغ، ونحن مطالبون اليوم أن نوجد عالما جديا لهذا الزمن الجديد، وأن نؤسس في هذا السياق التاريخي أبجدية أخرى جديدة ومغايرة، وأن نوجد كتابة تشبه ناسها، وتشبه طقسها ومناخها، وتحاول أن تعالج المسائل العالقة، وأن تجيب على كثير من الأسئلة المغلقة والمعلقة والغامضة والمبهمة..
ومثل هذه الكتابة الأخرى قد تبدو اليوم ـ في سوريا أو في مصر أو في المغرب أو في أي بلد عربي آخر ــ مطلبا صعبا جدا، وإن مثل هذه الصعوبة ـ في حال وجودها ـ لا يمكن أن تصل إلى حد المحال، وذلك لأن الاستثناء حاضر دائما، وهو ممكن الوجود أيضا، وهو يلازم القاعدة في أغلب الأحيان، أو في أغلب الأحوال، وتأتي الصعوبة من المعطيات التي تحكم فعل الكتابة، والتي تحاصر الإنسان الكاتب، والتي يمكن اختزالها في شيئين اثنين هما :
أولا، هيمنة السياسي على الثقافي، الشيء الذي حول الكتابة عن قصدها الحقيقي، ومسخها، وجعلها استنساخا للمألوف والمعروف، وجعل الكتاب يتحولون إلى مستكتبين والعلماء إلى متعلمين والحكماء إلى محكومين، وجعل فعل الإبداع مصنفا في خانة الإتباع، وجعل الكتابة الحرة في حكم الغياب أو ما يشبه الغياب .
ثانيا، الهيمنة التي تمارسها ـ على الكتابة والكاتب ـ حفنة صغيرة من المنابر المتحزبة والمؤدلجة ـ من الإيديولوجيا ـ وهذه الهيمنة هي التي لا تسمح اليوم بظهور الكتابة الأخرى ولا بتألق الكاتب الآخر، ولا بتحرير الكاتب والكتابة
إنني أبحث عن كتابة أخرى، ولكن الكتابة الأخرى هل تبحث عني؟
أعرف أن الحب الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا مقتسما، وأن من يحب شيئا من الأشياء، لابد أن تحبه كل الأشياء، شيء مؤكد أنه لا أحد يمكن أن يعرف الآن تفاصل وجزئيات وأسرار تلك الكتابة الأخرى الغائبة، ولعل أجمل وأخطر ما في تلك الكتابة ـ الحلم أو الوهم، هو غيابها الحاضر دائما، وهو غموضها الواضح، وهو زئبقيتها ومكرها، ولولا ذلك ما كان لها كل هذا السحر وكل هذه الجاذبية والغرائبية، وعليه، فإنني لا أملك سوى أن أقول الكلمة التالية، إن كل ما أعرفه اليوم عنها هو أنها كتابة مغايرة ومختلفة ومخالفة، وأنها مثيرة ومدهشة، وأنها جديدة ومتجددة، وأنها لا تتوقف عن البحث عن الغائب والمغيب، وعن الممنوع والمقموع، وعن البعيد والمبعد، وعن الغامض والملتبس، وعن المضمر والمهرب. يقول أبو العتاهية في أبيات شعرية تنسب إليه:
النفس بالشيء الممنع مولعة والحادثات أصولها متفرعة
والنفس للشيء البعيد مريدة ولكل ما قربت إليه مضيعة
كل يحاول حيلة يرجو بها دفع المضرة وجلب المنفعة
ونحو هذا البعيد الممنع، ينبغي أن نرحل جميعا، وذلك بحثا عن المدينة الفاضلة الممكنة
الوجود ، وبحثا عن اللغة الفردوسية الضائعة أو المضيعة ، وبحثا عن الإنسان الإنساني فينا،
وبحثا عن الكتابة الحيوية المتجددة، والتي هي كتابة أخرى بالضرورة.
وبحثا عن القارئ الآخر،